أدى مؤتمر فيينا الأول، الذي عقد في 1814-1815، إلى إحلال السلام في أوروبا لما يقرب من 100عام وذلك منذ عام 1815 وحتى 1914. وذلك أدى الى ظهور أوروبا قادرة على حل الصراعات من خلال الدبلوماسية بدلا من الحروب. ويمكن اعتبار هذا المؤتمر كخطوة أولى نحو نظام دولي قائم على إدارة الصراعات من خلال الاتفاق، ويعد هذا المؤتمر أيضا سلف للأمم المتحدة ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا وغيرها من المنظمات المهمة. إن أوروبا في القرن الحادي والعشرين تحتاج إلى مؤتمر فيينا جديد، حيث انه ملتقى شامل للدبلوماسية تشارك فيه كافة البلدان الأوروبية لتحقيق السلام والأمن والتعاون، وهو أمر ضروري لخلق الحكم الذاتي الاستراتيجي الأوروبي.
أدى مؤتمر فيينا الأول، الذي عقد ما بين عام 1814 وعام 1815، إلى إحلال السلام في أوروبا لما يقرب من 100 عام وذلك منذ عام 1815 وحتى 1914. كما أنها مثلت انتقالًا إلى أوروبا التي يمكنها حل الصراعات من خلال الدبلوماسية بدلاً من الحروب. وكانت أيضًا الخطوة الأولى في إنشاء ما سيصبح شكلًا ونظامًا دوليًا يعتمد على إدارة الصراع من خلال الاتفاق والاجماع، ويمكن اعتباره سلفًا للأمم المتحدة ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا وغيرها من المنظمات المهمة.
والآن، في القرن الحادي والعشرين، تحتاج أوروبا إلى مؤتمر فيينا جديد، حيث انه ملتقى شامل للدبلوماسية لتحقيق السلام والأمن والتعاون الأوروبي. وهذا يعني انه مؤتمر لا يشمل فقط الدول داخل الاتحاد الأوروبي ودول الناتو الأوروبية، بل أيضًا روسيا ودول أوروبية أخرى في منظمة الأمن والتعاون في أوروبا. وتعد مشاركة وتعاون كل هذه البلدان ضرورة أساسية لخلق الحكم الذاتي الاستراتيجي الأوروبي من خلال نظام أمني أوروبي فعال، والذي يتعين على أوروبا أن تعمل على إنشائه والحفاظ عليه بمواردها الخاصة.
وفي الواقع، أن النظام الأمني الأوروبي الجديد من شأنه أن يعزز مصالح اوروبا الأمنية بطريقة سيكون معها لا حاجه لوجود عدو، وذلك لان خلق ″الطرف الاخر″ يمثل ضرورة أساسية لبناء وصيانة قدرات عسكرية ضخمة مكلفة للغاية. إن سبب وجود حلف شمال الأطلسي قد عفا عليه الزمن، ولكنه مع ذلك لا يزال يعكس الأهداف التي عبر عنها أمينه العام الأول، اللورد إسماي من المملكة المتحدة، عندما ذكر أن حلف شمال الأطلسي قد تم إنشاؤه ″لإبقاء الاتحاد السوفييتي خارجاً، والأميركيين في الداخل، والألمان في الاسفل. ″
ولذلك فلابد من إقامة مؤتمر فيينا جديد ـ من خلال المفاوضات والتعاون والتسوية ـ وذلك لتطوير نظام أمني تقوده وتسيطر عليه أوروبا، وهو ما يتطلب التزامات سياسية وعسكرية ومالية من جانب كافة الدول الأوروبية المعنية. ويتعين على هذا المؤتمر أن يتعامل مع امر و اقعيا وهو أن الولايات المتحدة، بقواعدها العسكرية العديدة وأسلحتها النووية في أوروبا، أصبحت ليس فقط العضو الأقوى في حلف شمال الأطلسي، بل وأيضاً أقوى دولة ″أوروبية″.
ان استعانة أوروبا بمصادر خارجية لا تعني فقط التخلي عن جوانب رئيسية من سيادة أوروبا لصالح الولايات المتحدة في المسائل الأساسية مثل الدفاع والأمن والسياسة الخارجية الأوروبية، بل وأيضاً للأمور السياسية والمالية والطاقة وغيرها من الأمور الرئيسية. وتستمر اولوية الولايات المتحدة في كافة المسائل الأوروبية المتعلقة بالدفاع والأمن، بما في ذلك العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة والتي كان لها تأثير اقتصادي، سياسي، مالي سلبي كبير وغير متناسب على اقتصادات الاتحاد الأوروبي.
لقد استعانت دول حلف شمال الأطلسي الأوروبية بمصادر خارجية للدفاع والأمن، ليس فقط من خلال سيطرة الولايات المتحدة على حلف شمال الأطلسي والقواعد والأصول العسكرية الأميركية العديدة في أوروبا، بل وأيضاً من خلال قبول تمركز الأسلحة النووية الأميركية في خمس من دول حلف شمال الأطلسي الأوروبية. وتستند تلك الترتيبات للتقاسم النووي إلى سياسة الناتو المتمثلة في الردع النووي الموسع، حيث تقبل بعض الدول غير الحائزة للأسلحة النووية والتي هي أعضاء في الناتو نشر أسلحة نووية أمريكية على أراضيها وتوفر لقواتها المسلحة إيصال هذه الأسلحة إلى أراضيها أوقات الحرب.
لا يقتصر الأمر على إمكانية توفير الردع النووي الموسع لحلفاء الولايات المتحدة دون نشر أسلحة نووية على أراضيهم، كما هو الحال مع جمهورية كوريا واليابان، بل إن نظام الردع النووي ينتهك أيضًا التزامات المواد الأولى والثانية والسادسة من معاهدة حظر الانتشار النووي. من الدول الحائزة للأسلحة النووية (NWS) والدول غير الحائزة للأسلحة النووية (NNWS) المعنية.
علاوة على ذلك، فإن اتفاقات نظام الأمن القومي الأمريكي مع حلفاء الناتو والقواعد العسكرية الأمريكية في أوروبا تعزز قوة الولايات المتحدة ووجودها في أوروبا، وستؤدي أيضا، في نهاية المطاف، إلى تقليل أمن واستقرار أوروبا بدلاً من زيادتهما وتضمن أن أوروبا ستكون مسرحًا رئيسيًا لأي صراع مستقبلي محتمل بين الناتو وروسيا.
ان السبب الأولي لنشأة حلف شمال الأطلسي كان مواجهة حلف وارسو السابق الذي لم يعد موجودا الان. ولكن تحت قيادة الولايات المتحدة، تم ابدا سببا جديداً لوجود حلف شمال الاطلسي وذلك من خلال اعتبار روسيا الخصم/العدو المشترك والتي، وفقا لما يزعمه أعضاء حلف شمال الأطلسي، تريد استعادة السيطرة على دول الاتحاد السوفييتي السابق، ولكن روسيا تنفي ذلك بشدة. ومع ذلك، فإن التهديدات، سواء المبررة أو غير المبررة، من قبل جميع الأطراف تستمر في تأجيج هذه العلاقة العدائية، خاصة منذ أن هاجمت روسيا أوكرانيا في فبراير 2022.
عند نهاية الحرب الباردة في عام 1991، كانت روسيا مهتمة بإنشاء نظام أمني لعموم أوروبا والمشاركة فيه، وليس في حلف شمال الأطلسي. وكان من الممكن تحقيق هذه الغاية من خلال تدعيم مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا، التي أصبحت الآن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا. ولكن ذلك لاقى مقاومة من قِبَل أولئك الذين اعتبروا أنفسهم ″المنتصرين″ في الحرب الباردة وفضلوا إنشاء نظام أمني مستندا على حلف شمال الأطلسي في أوروبا. وبهذا فلقد أهدروا فرصة بالغة الأهمية لتجنب جعل روسيا عدواً، والتي هي واحدة من الدول الرئيسية المسؤولة عن انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية.
صرح جورج كينان في مقال نشرته صحيفة نيويورك تايمز بتاريخ 2 مايو 1998 أن توسع الناتو شرقًا هو ″خطأ مأساوي… لم يكن أحد يهدد أي شخص آخر″. حيث يعد توسع حلف شمال الأطلسي شرقاً حتى حدود روسيا من العوامل الرئيسية التي أثرت على قرار روسيا بالتدخل في أوكرانيا، وهو ما يشكل انتهاكاً للوعود التي قطعتها روسيا على نفسها بعدم القيام بذلك عند إعادة توحيد ألمانيا في عام 1990. وتبين بعد ذلك أن التوسع شرقاً لحلف شمال الأطلسي كان، كما توقع كينان وغيره من المراقبين، ″خطأ مأساوي″.
وقد قاومت روسيا سلميا هذا الأمر مراراً وتكراراً، وذلك حتى قامت الولايات المتحدة/حلف شمال الأطلسي، رداً على ″ثورة الميدان″ وغيرها من الأحداث، بضم أوكرانيا كعضو محتمل في حلف شمال الأطلسي. وقامت بإغراق أوكرانيا بالأسلحة والمستشارين العسكريين، وأغرقت أوكرانيا حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي ووسائل الإعلام بمطالب العضوية والمال والدعم العسكري. وفقا للتاريخ والواقع، فمن الواضح أن الصراع الروسي الأوكراني لا بد أن ينتهي في نهاية المطاف بتسوية عن طريق التفاوض. ومن مصلحة كافة الدول الأوروبية أن يحدث هذا عاجلاً وليس آجلاً.
في مؤتمر ميونيخ للأمن عام 2007، اقترح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هيكلًا أمنيًا أوروبيًا لجميع الدول الأوروبية بما في ذلك روسيا. وقد رفض الغرب هذا الاقتراح، وخاصة منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الدولة الرائدة فيه، الولايات المتحدة. وفي هذا الصدد، من المهم التذكير بأن فرنسا شاركت كشريك مساو لكافة الدول في مؤتمر فيينا الأصلي، على الرغم من أن هيمنة قوة واحدة، وهي فرنسا، كانت تشكل التهديد الرئيسي لسلام أوروبا وأمنها في ذلك الوقت. وكان الدور الذي لعبته فرنسا في المؤتمر أساسياً في تأسيس توازن جديد وطويل الأمد لميزان القوى في أوروبا.
في الواقع، فانه من خلال توسيع عضوية الناتو وقواعده وأسلحته إلى حدود الاتحاد الروسي، أظهرت الولايات المتحدة وحلفاؤها في الناتو تجاهلهم للاتفاقيات السابقة ولالتزاماتهم بدعم عدم تجزئة الأمن، المتفق عليه والمنصوص عليه في ميثاق منظمة الأمن والتعاون في أوروبا للأمن الأوروبي لعام 1999. ان المبدأ الأساسي لعدم تجزئة الأمن هو أن الأمن لا يمكن أن يكون لعبة محصلتها صفر – فما يزيد من أمن دولة واحدة أو مجموعة من البلدان لا يمكن أن يقلل من أمن الآخرين.
إن استعانة اوروبا بمصادر خارجية يظهر عدم سيطرتها على موقفها الأمني وعما اذا كان موقفها يتسق مع واجباتها والتزاماتها بدعم ″عدم تجزئة الأمن″. هناك حدثان حاسمان دفعا أوروبا إلى تطوير سياسات وإجراءات لتحقيق ″الاستقلال الاستراتيجي″ ، أي تحمل أوروبا المسؤولية عن أمنها ودفاعها ومجالات أخرى. وهذه الأحداث هي: (1) الانسحاب الأمريكي الفوضوي لقواتها من أفغانستان في أغسطس 2023 دون التشاور المسبق مع حلفائها في الناتو و(2) الصراع الأوكراني الروسي.
ولكن إذا كان التاريخ يعلمنا أي شيء، فإن الحل لتحقيق الاستقرار والأمن والسلام في أوروبا لم يتغير منذ نهاية الحرب الباردة، وهو الدبلوماسية والتعاون والتسوية لتطوير نظام أمني أوروبي شامل يقوم على عدم تجزئة الأمن. إن انعقاد مؤتمر فيينا جديد يضم كافة الدول الأوروبية قد يشكل وسيلة فعّالة لبدء تلك العملية الصعبة ولكنها وسيلة أساسية لتحقيق الاستقلال الاستراتيجي.
الصورة: مؤتمر فيينا، 1814-1815 (1900). في الفترة من سبتمبر 1814 إلى يونيو 1815، اجتمع ممثلو القوى الأوروبية الكبرى في فيينا، النمسا، لإعادة تنظيم أوروبا بعد هزيمة الإمبراطور الفرنسي نابليون الأول. مؤتمر فيينا، 1814-1815. الفنان : غير معروف . © IMAGO / صور التراث