استمرت التوترات في ناغورنو كاراباخ لعقود من الزمن، حيث أدت أعمال العنف الأخيرة في عام 2023 إلى زيادة زعزعة استقرار المنطقة مما أجبر أكثر من مائة ألف أرمني على ترك منازلهم. وقضت محكمة العدل الدولية بأنه يجب على أذربيجان السماح للأرمن الذين فروا من المنطقة بالعودة إلى ديارهم. فهل ستلتزم أذربيجان بهذا القرار؟
تصاعدت النزاعات في منطقة ناجورنو كاراباخ الجبلية في أواخر الحقبة السوفيتية، حيث طالبت كل من أرمينيا وأذربيجان بها. ومع تفكك الاتحاد السوفييتي في عام 1991، واشتد الصراع وتحول إلى حرب واسعة النطاق، ثم تم وقف إطلاق النار في عام 1994. وقد أدى وقف إطلاق النار هذا إلى ترك منطقة ناجورنو كاراباخ تحت سيطرة جمهورية آرتساخ، التي تمارس نشاطها كدولة مستقلة دون اعتراف دولي بحكم الأمر الواقع على الرغم من اعتمادها الكبير على أرمينيا، مما مهد الطريق لمناوشات مستقبلية.
حرب ناجورنو كاراباخ الثانية
اندلعت حرب ناغورنو كاراباخ الثانية في 27 سبتمبر 2020، عندما شنت القوات الأذربيجانية هجومًا منسقًا، مما أدى إلى إشعال نزاع إقليمي طويل الأمد مع أرمينيا حول المنطقة الجبلية. وعلى عكس التصعيدات السابقة في القرن العشرين، شهد صراع 2020 استخدام التقنيات العسكرية المتقدمة. حيث لعبت الطائرات بدون طيار والمدفعية بعيدة المدى والذخائر الموجهة بدقة دورًا بارزًا، خاصة بالنسبة لأذربيجان. وبحسب ما ورد تم تزويدها بهذه التقنيات في المقام الأول من قبل تركيا وإسرائيل، مما يسلط الضوء على الآثار الجيوسياسية الأوسع للحرب. وقد منحت الطائرات بدون طيار، على وجه الخصوص، أذربيجان ميزة استراتيجية، مكنتها من تنفيذ ضربات دقيقة ومراقبة متقدمة، مما أدى إلى تغيير مسار الحرب بالكامل. وكان الجانب المهم الآخر هو تورط المرتزقة الأجانب. وظهرت تقارير عن نقل مقاتلين سوريين إلى أذربيجان، بتيسير من تركيا. من الملاحظ ان تدويل الصراع ازاد طبقات من التعقيد وأبرز المخاطر الأوسع التي ينطوي عليها الأمر.
وبعد أربعة وأربعين يومًا من القتال العنيف، أصبح الصراع معروفًا بالعامية باسم ″ حرب الـ 44 يومًا″. استعادت أذربيجان السيطرة على منطقة كبيرة في ناغورنو كاراباخ، وهي منطقة ذات أغلبية أرمنية من حيث السكان وتقع تحت السيطرة الأرمنية منذ وقف إطلاق النار عام 1994. ولقد بلغ الصراع ذروته باستيلاء القوات الأذربيجانية على بلدات متعددة، بما في ذلك مدينة شوشا ذات الأهمية الاستراتيجية والثقافية. وعقب ذلك انتهت الأعمال العدائية باتفاق وقف إطلاق النار الموقع في 9 نوفمبر 2020، بوساطة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مع الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف، ورئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان، ورئيس جمهورية آرتساخ المعلنة من جانب واحد، أرايك هاروتيونيان، بالموافقة على إنهاء القتال. وأدى هذا الاتفاق إلى احتفاظ أذربيجان بالمناطق التي استولت عليها خلال الحرب ونشر قوات حفظ السلام الروسية في المنطقة للحفاظ على وقف إطلاق النار.
لعب دعم تركيا العلني لأذربيجان، دبلوماسيًا وعسكريًا، دورًا حاسمًا في تشكيل مسار الحرب. حيث أدى هذا التحالف إلى زيادة عزلة أرمينيا والتي على الرغم من تحالفها مع روسيا من خلال منظمة معاهدة الأمن الجماعي (CSTO)، لم تشهد تدخلًا روسيًا مباشرًا نيابة عنها خلال الأعمال العدائية عليها. وعلى الرغم من التوسط في وقف إطلاق النار ونشر قوات حفظ السلام، واجهت روسيا انتقادات بسبب تقاعسها الملحوظ، خاصة من الجانب الأرمني. ويعتقد العديد من الأرمن أنه كان بإمكان موسكو التدخل بقوة أكبر لمنع أو تقليل الخسائر الإقليمية الأرمنية. وقد ساهم غياب الدعم الروسي، إلى جانب المكاسب التي حققتها أذربيجان، في خلق بيئة من انعدام الأمن وانعدام الثقة بين الأرمن.
اتسمت فترة ما بعد الحرب بمزيج من الاحتفال القومي في أذربيجان والتأمل العميق والاضطراب السياسي في أرمينيا. ولقد أدت الإخفاقات الملحوظة للقيادة الأرمنية خلال الحرب إلى احتجاجات واسعة النطاق ومطالبات لمحاسبة الحكومة الحاكمة. ومن ناحية أخرى، أشادت أذربيجان بالنتيجة ووصفتها بأنها تصحيح للمظالم التاريخية وخطوة مهمة نحو هدفها النهائي المتمثل في ممارسة السيادة على ناجورنو كاراباخ.
تصعيد جديد في المنطقة
وفي 19 سبتمبر2023 ،بعد ثلاث سنوات من السلام النسبي، ، شنت أذربيجان هجومًا مفاجئًا واسع النطاق ضد جمهورية آرتساخ. يأتي هذا الهجوم خلال الحصار الذي فرضته أذربيجان على آرتساخ، ويعد ذلك انتهاكًا لاتفاق وقف إطلاق النار لعام 2020. وقد حظيت العملية العسكرية الأذربيجانية، التي يطلق عليها ″أنشطة مكافحة الإرهاب″، بدعم كبير من تركيا. حيث أظهر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الأذربيجاني إلهام علييف جبهة موحدة ضد أرمينيا وقاما بتعزيز خلال تلك الفترة بتعزيز علاقاتهما.
أدى هذا الهجوم إلى أزمة إنسانية كبيرة. حيث فر أكثر من 100 ألف من الأرمن من ناجورنو كاراباخ حتى أكتوبر 2023. وكان رد فعل المجتمع الدولي مزيجًا من القلق والإدانة. وقد حذرت منظمات حقوق الإنسان وخبراء منع الإبادة الجماعية من المخاطر التي يواجهها السكان الأرمن في ناغورنو كاراباخ، وقد قامت بعض الاصوات بتسليط الضوء على احتمال حدوث إبادة جماعية أخرى للأرمن.
وبينما أعرب المجتمع الدولي عن قلقه بشأن الوضع، إلا أن ذلك لم يُترجم إلى مساعدة حقيقية لجمهورية آرتساخ. ولقد تدفق عشرات الآلاف من النازحين إلى أرمينيا، حيث يواجهون ظروفاً مزرية وذلك لعدم كفاية الدعم لتلبية احتياجاتهم الفورية. وفي 28 سبتمبر، تم حل جمهورية آرتساخ رسميًا عندما وقع رئيسها، سامفيل شهرامانيان، مرسومًا ينص على أن الجمهورية ستنتهي رسميًا من الوجود اعتبارًا من 1 يناير 2024.
أدى تجدد أعمال العنف في ناجورنو كاراباخ في عام 2023 إلى أزمة إنسانية كبيرة، مع نزوح واسع النطاق للارمن. وفي 5 أكتوبر 2023، أعلن البرلمان الأوروبي أن النزوح القسري للأرمن من ناغورنو كاراباخ هو ″تطهير عرقي. ″
هل يعد قرار محكمة العدل الدولية بشأن حق عودة الأرمن سابقة للفلسطينيين في غزة؟
في 17 نوفمبر 2023، قضت محكمة العدل الدولية، بأغلبية 13 صوتًا مقابل صوتين، بأنه يجب على أذربيجان السماح لجميع الأرمن الذين فروا من ناغورنو كاراباخ خلال الاستيلاء العسكري الأذربيجاني في سبتمبر 2023 بالعودة إلى ديارهم. علاوة على ذلك، قضت المحكمة أنه يجب الحفاظ على سلامة الأرمن الذين بقوا في أذربيجان. وأكد القاضي جوان دونوغو مجددًا أنه ″يجب على أذربيجان… التأكد من أن الأشخاص الذين غادروا ناغورنو كاراباخ بعد 19 سبتمبر 2023، والذين يرغبون في العودة إلى ناغورنو كاراباخ، قادرون على القيام بذلك بطريقة آمنة ودون عوائق وسريعة″. واحكام المحكمة ملزمة قانونًا ونهائية.
والحكم الذي أصدرته المحكمة التابعة للأمم المتحدة هو حكم اولي في قضية رفعتها أرمينيا ضد أذربيجان متهمة إياها بانتهاك اتفاقية دولية ضد التمييز العنصري في ناغورنو كاراباخ. وفي المقابل، رفعت أذربيجان دعوى ضد أرمينيا في محكمة العدل الدولية تدعى فيها حدوث انتهاكات لنفس الاتفاقية. ومن المرجح أن تستغرق كلتا القضيتين سنوات للفصل النهائي.
ردًا على الحكم، كررت وزارة الخارجية الأذربيجانية موقفها الرسمي بأن أذربيجان لم تطرد أيًا من الأرمن.
لقد خلق تفكك جمهورية آرتساخ تحديات جديدة في توفير الاحتياجات الأساسية لأكثر من 100000 من النازحين الباحثين عن ملجأ داخل حدودها. وعلى الرغم من الانتهاكات الواضحة للسيادة واتفاق وقف إطلاق النار، وجدت أرمينيا نفسها وحيدة دون دعم دولي كبير. إن دعوات السلام وعروض الوساطة لم تقابلها الجهود الضرورية المطلوبة لمساعدة جمهورية آرتساخ في حربها الأخيرة.
ان الحكم الذي قضت به محكمة العدل الدولية يمكن أن يشكل سابقة مهمة عند البت في قضايا ″التطهير العرقي″ المستقبلية والمعلقة، كما هو الحال في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني المستمر، حيث تظل مسائل الوضع القانوني والمطالبات الإقليمية وحماية حقوق الإنسان قائمة. مثيرة للجدل بشدة ولم يتم حلها على الساحة الدولية.